Skip to main content
A house in northeast Mosul after the area was retaken from ISIS by Iraqi forces in November 2016. © 2016 Alvaro Canovas/Paris Match via Getty Images

ما هكذا تكون العودة إلى الديار

   

في ديسمبر/كانون الأول 2018، شهدت على الإغلاق العنيف لمخيم "18 كيلو"، وهو مخيم في الأنبار سُمي بهذا الاسم لأنه يبعد 18 كيلومترا عن مدينة الرمادي وسط العراق. كان المشهد فظيعا: أسر تصرخ على الجنود مطالبة بتوضيح لطردها؛ آخرون تجمعوا بهدوء معا، أقدامهم مكسوة بالوحل، بجوار خيامهم الفارغة الآن.

هذه العائلات أرادت العودة إلى ديارها ولكن لم يسمح لها الجيش والمجتمعات المحلية بذلك، لأنه يُعتقد أن لها صلات بـ"تنظيم الدولة الإسلامية" (المعروف أيضا بـ’داعش‘). غالبا ما كان السبب هو زعم أن الأب أو الأخ أو الابن كان قد حمل السلاح مع التنظيم. قيل لهم الآن إن عليهم مغادرة الخيَم المؤقتة التي كانت موطنهم في السنوات القليلة الماضية والانتقال إلى مخيم آخر. أي أمل في العودة الحقيقية لديارهم – العودة إلى البلدات والقرى والمدن التي عاشوا فيها حياتهم قبل سقوط العراق في الفوضى في 2014 – بدا بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى. بالنسبة للكثيرين، فإن العودة إلى "ديارهم" معقدة ومحفوفة بالمخاطر، بل حتى خطيرة. بالنسبة لآخرين، فهي مستحيلة.

النزوح بسبب القتال ضد داعش

في ذروة القتال بين القوات العراقية وداعش في 2017، اضطر 5.8 مليون شخص على الأقل إلى الفرار من ديارهم. انتشرت عشرات المخيمات في جميع أنحاء العراق لإيواء النازحين، ومع تراجع القتال بدأت بعض العائلات بالعودة إلى ديارها. لكن الكثير منهم ما زالوا نازحين –نحو 1.8 مليون – 450 ألف منهم في 109 مخيمات و1.2 مليون آخرين في ترتيبات السكن الخاصة أو غير الرسمية.

النازحون الباقون معرضون بشكل خاص للانتهاكات. يُجبَر البعض على العودة إلى ديارهم رغم الظروف غير الآمنة، حيث يكونون عرضة للألغام الأرضية، أو الهجمات الانتقامية من الجيران أو التجنيد القسري في الجماعات المسلحة المحلية. يُمنَع البعض من العودة إلى ديارهم، ويُحتجزون فعليا في المخيمات.

مخيمات اللاجئين والنازحين حتى يناير/كانون الثاني 2017.

كان إغلاق 18 كيلو جزءا من جهد أكبر في العراق للتعامل مع النزوح الجماعي الناجم عن النزاع. في الفترة التي سبقت الانتخابات البرلمانية في العراق في مايو/أيار 2018، بدأ رئيس الوزراء آنذاك، حيدر العبادي، بدعوة العائلات النازحة للعودة إلى ديارها. منذ أوائل 2018، دفعت السلطات بصرامة أكبر من أجل عودة معظم النازحين. بدأت بإغلاق المخيمات. نُقلت العائلات التي لا تستطيع العودة إلى ديارها إلى المخيمات المتبقية. سيكون لمشروع إعادة الهيكلة الاجتماعية الضخم هذا لإعادة بناء الأمة المشتتة تبعات.

أسر عراقية من مختلف الأحياء في شرق الموصل تفر من منازلها وسط قتال عنيف بين داعش والقوات العراقية في أكتوبر/تشرين الأول 2016. © 2016 أيفور بريكيت/ مفوضية الأمم المتحدة للاجئين / بانوس بيكتشرز

العودة القسرية

تجد بعض الأسر التي أُجبرت على العودة إلى ديارها أن كل ما تبقى من منازلها هو أنقاض.

في أوائل ديسمبر/كانون الأول 2018، زرت قرية تل أبو جراد، إحدى مناطق محافظة صلاح الدين التي كانت تحت قبضة داعش لعدة سنوات. صدمني الدمار. هربت العديد من العائلات من المنطقة في 2016، حين كان داعش يحارب القوات العراقية. والآن، عادت 60 عائلة إلى الأنقاض لأن القادة المحليين أمروا السلطات في المناطق التي كانت تعيش فيها العائلات بطردها لإجبارها على العودة. تشتبه المنظمات الإنسانية التي تحدثت إليها بأن السبب وراء هذا هو أن زعيما محليا أراد جذب المساعدات إلى المنطقة، وليس بإمكانه فعل ذلك إلا بعودة عدد من السكان.

بمجرد عودة العائلات إلى ديارها، أخبرتها الجماعة المسلحة التي تسيطر على المنطقة أن على أحد الأقارب الذكور الانضمام إلى مجموعة محلية لحراسة الحي والقيام بدوريات يومية لحماية المنطقة من داعش. "قالوا إن على الجميع الدفاع عن منزلهم، لكن بدون أجر"، أخبرتني امرأة مسنة بينما كان ابنها في دورية. لا نعارض مجموعات الحراسة، لكن يجب أن تكون طوعية وينبغي تدريب الرجال الذين يحملون أسلحة بشكل ملائم، وأن يضعوا نظام قيادة وتحكم بوجود إرشادات قانونية واضحة. أشار صبي صغير إلى الشجيرات وأخبرني أن داعش ما زال يتربص هناك، وينشط في الليل.

في الحويجة القريبة، كان مقاتلو داعش يعدمون القرويين الذين يظنون أنهم يساعدون السلطات. ما أنا متأكدة منه حقا هو أنه عندما زرت العائلات في تل أبو جراد، لم تكن العائلات بأمان.

مسجونون في المخيمات

منذ 2016، قضيت فترات طويلة في مخيمات في أنحاء العراق. خلال ذلك الوقت، لاحظت حدوث تحوّل كبير في مشاعر الناس في المخيمات. بينما كانوا سعداء ذات مرة بالعودة تحت سيطرة الحكومة العراقية وتلقي الخدمات.  بعد مرور 3 سنوات، دون أي إشارة على أنه سيسمح لهم بالعودة إلى ديارهم، فإن هذه العائلات الآن تغلي من الغضب والاستياء تجاه السلطات. بدلا من وضع خطة واضحة لإعادة دمج الأسر في المجتمع العراقي، لم تقم السلطات بأي شيء، تاركة السلطة للجماعات المسلحة وقادة المجتمع والعقلية الغوغائية. أخبرني مسؤولون حكوميون أنه من "الصعب للغاية" سياسيا فعل الصواب وتسهيل عودة العائلات إلى ديارها.

مناطق اللا عودة

في ربيع 2019، حدد العاملون الإنسانيون في العراق 242 منطقة مختلفة في العراق، لم تتمكن فيها أسرة واحدة من العودة رغم انتهاء القتال، في بعض الحالات منذ 5 سنوات. يعود السبب في بعض المناطق إلى أن داعش ترك ألغاما أرضية وغيرها من أشكال المتفجرات والمنازل المفخخة التي لم يتم تطهيرها بعد.

 لكن في 94 منطقة من المناطق، فإن الحظر الفعلي على عمليات العودة هو شكل من أشكال العقوبة ضد أولئك الذين ترى قوات الأمن أنهم كانوا متعاطفين مع داعش، أو أن لديهم قريبا كان يتعاطف مع التنظيم. قدّر مسؤول بوزارة الداخلية عدد الأشخاص من أسر يُتصور انتماؤها إلى تنظيم داعش، والذين لم يتمكنوا من العودة إلى ديارهم بسبب اعتراض السلطات الاتحادية أو المحلية أو المجتمعات المحلية، بحوالي 250 ألف شخص. هذا العدد على وشك التزايد، حيث بيّنت المنظمات الإنسانية العاملة في المخيمات في سوريا أن هناك ما لا يقل عن 30 ألف عراقي تعمل الحكومة العراقية على إعادتهم من سوريا.

على الحكومة أن تخبر وكالات الإغاثة كيف ستتعامل مع هذه العائلات عندما تعبر الحدود. لكن بعض السلطات لمّحت إلى أنها تعتبر هذه العائلات الأكثر تعاطفا مع داعش، وتضغط من أجل خضوعها للتدقيق الأمني على الحدود ثم إرسالها إلى الاحتجاز الفعلي في مخيمات معزولة.

منع العودة

في مخيم 18 كيلو، في ديسمبر/كانون الأول 2018، أخبرني جندي أنه لم يُسمح سوى لثلاث عائلات بالعودة إلى ديارها – استوفت متطلبات العثور على أحد الوجهاء و10 شهود لإثبات عدم تعاطفها مع داعش. تم نقل بقية العائلات إلى مخيمات أخرى.

أرادت امرأة مسنة من منطقة في محافظة الأنبار العودة إلى المنزل حيث كانت القبيلة الرئيسية تدعي أن أفرادا من قبيلة المرأة انضموا إلى داعش وطالبوا بمبالغ ضخمة للسماح للعائلات بالعودة. قالت: "ليس لدي 40 ألف دولار لأعود إلى المنزل". روت العشرات من العائلات في الأنبار قصصا مماثلة: يمكن فقط للأسر الميسورة الدفع للقبيلة الأقوى العودة إلى ديارهم. عائلات ثرية قليلة من 18 كيلو كانت في طريقها إلى ديارها، أما الأكثر فقرا فبقيت.

نُقلت العائلات الباقية إلى مخيمين آخرين في الأنبار، ومع الذين غادروا، ازداد عدد سكان المخيم الذين لهم صلات مزعومة بداعش. قالت العائلات إن قوات الأمن بدأت تعامل السكان كأنهم سجناء أكثر من كونهم نازحين، وفي بعض المخيمات حرمتهم من الهواتف الخلوية أو استقبال الزوار أو الحق في المجيء أو المغادرة بحرية، أو في بعض الحالات منعتهم من المخيم. ما كانت في الماضي مخيمات للنازحين بنتها الأمم المتحدة، أصبحت سجونا مفتوحة.

خيم إلى الجنوب من الموصل يأوي العائلات النازحة بسبب القتال بين داعش والقوات العراقية، ويضم العائلات ذات الانتماء المفترض لداعش والتي منعت من العودة إلى ديارها. © 2018 مويسيس سمان/ ماغنوم فوتوز

الاحتجاز في المخيمات

في أوائل ديسمبر/كانون الأول 2018، وبعد ساعات من المفاوضات، سمحت لي مجموعة من المقاتلين الشيعة المسلحين الذين ينتمون إلى "قوات الحشد الشعبي" أخيرا بالدخول إلى مخيم سيئ السمعة اسمه "الإسحاقي" في محافظة صلاح الدين. المخيم سيء السمعة لأنه لا يوجد منظمة دولية أو محلية لإدارة المخيم. المقاتلون هم "إدارة" المخيم. أعاد المقاتلون الذين يديرون المخيم كسجن معظم المنظمات التي حاولت الدخول. من بين أكثر من 400 شخص هناك، رأيت حوالي 30 رجلا فقط، كلهم ​​أكبر من 60 عاما.

في مرحلة ما، تمكنت من مغافلة المقاتل الموكَل بمراقبة المقابلات التي أجريها. في اللحظة التي أصبح فيها بعيدا عن المسامع، توقفت النساء عن الحديث عن ظروف المخيم المرعبة – قلة الوقود، والأمراض المزمنة – وبدلا من ذلك أمطروني بالأسماء، أسماء عشرات الرجال. قُلن إنه بعد شهر من إحضار قوات الأمن لهم إلى المخيم، وقع انفجار قريب.

بعد ذلك، جمع مقاتلو قوات الحشد الشعبي جميع الرجال الـ52 في المخيم، الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و57 عاما، وأخذوهم مع عدد من الصبية الصغار. لم يسمعوا عنهم شيء منذ ذلك الحين، وهو نمط وثقته عدة مرات بعد الاعتقالات في المخيمات. لمدة 30 دقيقة، كل ما فعلته هو كتابة الأسماء، بما في ذلك أسماء فتيان لا تتعدى أعمارهم 10 سنوات. قبل مغادرتي، مزّقت الصفحات من دفتر ملاحظاتي وخبأتها في جيبي حتى لا يجدها الحراس إذا ما فتشوني.

داخل مخيم إسحاقي غير الرسمي الذي تديره "قوات الحشد الشعبي" في محافظة صلاح الدين. © 2018 بلقيس والي/ هيومن رايتس ووتش

في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، التقيت بـ "روان"، امرأة ودودة (35 عاما)، في مخيم على بعد 60 كيلومتر جنوب الموصل، معقل داعش السابق في العراق. رحبت بي في خيمتها النظيفة والفارغة في الوسط، والمكدسة بالفرش والوسائد على الجانبين. لم تكن هناك ممتلكات شخصية – أُجبرت أسرتها على ترك كل ما تملكه عندما فرت من منزلها، على بعد كيلومترين فقط من المخيم الذي تعيش فيه الآن، بعد تفجير دمر المنزل في 2016.

بينما كنا نجلس على الأرض الباردة القاسية، قاومت دموعها وهي تصف ذلك اليوم في أغسطس/آب الماضي عندما وصلت الشرطة إلى الخيمة واعتقلت ابنها "زياد" (14 عاما). قالت: "لقد أخذوه فقط بسبب ما فعله والده، ليس بسبب أي شيء فعله هو". الاعتقالات الانتقامية والإدانة بسبب القرابة أصبحت شائعة جدا في العراق. 

انضم زوجها إلى داعش مع إخوته وقُتل في غارة جوية في 2017. قالت إن قوات الأمن أخذت ابنها، مع حماتها (70 عاما)، وقالوا إنهم لا يصدقون أن زوجها قد مات. تعتقد روان أن الاعتقالات هدفت إلى الضغط على زوجها لتسليم نفسه. "عندما اعتقلوا ابني، أخبروني أن السبب هو تقارير لديهم تفيد أنه كان يرتدي زي داعش عندما كانوا تحت إمرة داعش – بالطبع كان يفعل ذلك، هذا ما كان الرجال من حوله يرتدون!".

تقضي روان أيامها في المخيم، عالقة في حالة ضياع، غير قادرة على المضي قدما في حياتها. لا يمكنها تجديد بطاقة هويتها (فقدت الأصلية بين أنقاض منزلها) ولا يمكنها تسجيل أطفالها الآخرين في المدرسة الحكومية المحلية في المخيم لأن زوجها انضم إلى داعش. وُصمت بأنها من "عوائل الدواعش"، وهو مصطلح عقابي شامل ينطبق على أي شخص له صلات مزعومة بمقاتلي داعش. تدفع الوصمة الآلاف من الناس، معظمهم من النساء والأطفال، إلى هوامش المجتمع العراقي، المحرومين من الخدمات، المحرومين من القدرة على الحركة بحرية، المحرومين من المستقبل. هي وصمة ترقى إلى مستوى العقاب الجماعي.

الوصم بالعداوة: الإدانة بسبب القرابة

صُنف الآلاف من النساء والأطفال في جميع أنحاء العراق بعوائل الدواعش منذ بدء القتال في 2014. إنهم منبوذون في العراق – لن أنسى أبدا سماع جندي في مركز وصول بالقرب من مخيم، يهمس بإذن امرأة بالكاد تقوى على الوقوف: "لماذا سمحت لابنك بالانضمام إلى داعش؟ عندما فعل، لماذا تركته ينام في المنزل كل ليلة؟ لماذا لم تسممي عشاءه؟". قد لا يكون لهذه المعاملة تأثير مادي فحسب بل تأثير نفسي أيضا. تشير نتائج حديثة إلى أن النازحين داخليا الذين يشعرون بأنه يُحكم عليهم سلبيا أكثر عرضة للاكتئاب من غيرهم.

استهدف داعش العائلات السنية، ومعظمها من العرب، للتجنيد باستخدام مزيج من الأيديولوجية والحوافز والتهديدات واستغلال الاستياء الناجم عن تهميشهم من قبل الحكومات العراقية منذ 2003. لدى العراقيين رغبة مشروعة في مطالبة السلطات بمحاسبة أولئك الذين شجعوا ودعموا داعش والمتورطين في فظائع مروعة بما في ذلك جرائم الحرب. لكن، مع تراجع داعش عن معظم أراضيها، تركز السلطات أيضا على نساء وأبناء أولئك الذين يُعتقد أنهم انضموا إلى داعش، وتمنع هؤلاء النساء والأطفال من العودة إلى ديارهم وإعادة الاندماج في المجتمع. في بعض الحالات، تقع النساء فريسة الاستغلال الجنسي. هذا الأمر يشكل تهديدا خطيرا لمستقبل العراق، حيث يخلق سكانا محرومين من حقوقهم سيكونون عرضة للتجنيد من قبل الموجة التالية من المتطرفين. بعبارة أخرى، قد يعيد تاريخ العراق المأساوي نفسه.

الحرمان من التصاريح الأمنية

واحدة من أكثر الأدوات الشائنة للعقاب الجماعي ضد العائلات ذات الانتماء المفترض لداعش هو ما يسميه العراقيون "التصريح الأمني". يحتاج العراقيون إلى تصريح أمني لاستبدال أي وثائق مدنية مفقودة. تفتقد العديد من العائلات التي عاشت تحت حكم داعش بين 2014 و2017 إلى وثيقة مدنية أو أكثر. صادرت سلطات داعش بانتظام الوثائق الرسمية وأصدرت وثائقها الخاصة، التي لا تعترف بها السلطات العراقية. كما صادرت قوات أمن الدولة وثائق بعض العائلات أثناء فرارها من القتال أو عند وصولها إلى مخيمات النازحين.

للحصول على تصريح أمني، تحتاج العائلات إلى التوجه إلى المخابرات المعنية في منطقتها، والتي تختلف بين المحافظات، لتقديم أسمائها وطلبات الحصول على تصريح. يدقق العناصر بأسمائهم من خلال قاعدة بيانات للأشخاص "المطلوبين" بسبب صلاتهم المزعومة بداعش. إذا كان أحد أقاربهم مدرجا في إحدى تلك القوائم، يحرمهم العناصر من التصريح، ويمزقون الطلب، وحتى يتلفون وثائقهم التي انتهت صلاحيتها – وفي بعض الحالات، يعتقلونهم.

بحسب تقديرات مجموعات الإغاثة، كان 156 ألف نازح على الأقل في أوائل 2019 ليس لديهم بعض الوثائق المدنية الأساسية. بدون تصاريح ووثائق أمنية، لا يُسمح للعراقي بالتنقل بحرية داخل البلاد. بدون وثائق، لا يُسمح له بالمرور عبر نقاط التفتيش – هناك الآلاف من نقاط التفتيش، على طول كل طريق رئيسي وفي جميع البلدات والقرى وعند مداخل المخيمات ومخارجها. هذا يعني أنهم إذا كانوا يعيشون حاليا في مخيم، فهم سجناء فعليا حتى يتمكنوا من الحصول على تصريح.

كما لا يمكن للأشخاص الذين لا يحملون وثائق الحصول على وظيفة أو رعاية صحية أو التقدم بطلب للحصول على الإعانات الاجتماعية في العراق. لا يمكنهم الحصول على شهادات ميلاد للأطفال حديثي الولادة أو الأطفال المولودين عندما كانوا يعيشون تحت سيطرة داعش. قد لا يُسمح للأطفال الذين حرموا من شهادات الميلاد بالتسجيل في المدرسة وهم معرضون لخطر انعدام الجنسية. النساء غير القادرات على الحصول على شهادات وفاة لأزواجهن غير قادرات على وراثة الممتلكات أو الزواج من جديد لعدة سنوات. غياب الوثائق – أو عدم السماح باستبدال الوثائق المفقودة، يُحوّل هؤلاء الأشخاص فعليا إلى غير مواطنين محرومين من حقوقهم.

اعترفت لي قوات الأمن بأن تقييد حرية الحركة هو السبب في حرمان هذه الأسر من الحصول على تصريح أمني. "من السهل مراقبتهم إذا لم يتمكنوا من الحركة"، أخبرني أحدهم مبتسما. بدون تصريح أمني، يُمنع أقارب المشتبه بانتمائهم إلى داعش من العودة إلى ديارهم. التنقل في العراق بدون بطاقة هوية سارية المفعول ليس خطيرا للغاية فحسب، بل يعرض الشخص لخطر الاعتقال، وبالتالي، التعذيب. والأسوأ هو أن العراقيين يحتاجون إلى تصريح أمني لدخول مبنى حكومي، بما في ذلك مبنى محكمة إذا ما أردوا السعي إلى انتصاف قضائي – مثلا إذا رُفض منحهم تصريحا أمنيا.

تعرض العديد من المحامين الذين سعوا لمساعدة هذه العائلات للحصول على تصاريح أمنية للتهديد والضرب والاعتقال. ليس من المستغرب أن لا أحد ممن قابلتهم مؤخرا على استعداد للمخاطرة بمساعدة أسرة ما بمجرد اكتشاف أن أحد الأقارب هو من المشتبه بانتمائهم لداعش.

النازحون داخليا عند نقطة تفتيش جنوب الموصل، بعد فرارهم من القتال بين داعش والقوات العراقية في أغسطس/آب 2016. © 2016 أيفور بريكيت/ مفوضية الأمم المتحدة للاجئين/ بانوس بيكتشرز

التغلب على القيود المفروضة على الحركة والعودة

في بعض المناطق، ظهر حل عملي للحصول على تصريح أمني حتى يتمكن أقارب المشتبه بانتمائهم لداعش من العودة إلى ديارهم. في خريف 2016، تمكن قادة محليين في الأنبار من حث السلطة القضائية على الموافقة على أنه إذا قدمت زوجة أو والد أو أخت أو قريب آخر لأحد أعضاء داعش المفقودين – ربما يكون ميتا أو مختفيا –شكوى جنائية ضد هذا الشخص بسبب عضويته في داعش أمام القاضي، يصدر القاضي وثيقة تمنحهم الضوء الأخضر للحصول على التصريح الأمني. وتسمى هذه الممارسة "التبرية" (التبرئة).

عندما سمعت لأول مرة عن هذه الممارسة، افترضت أن قلة من العائلات قد تفكر في القيام بذلك – فالعراقيون يقدرون بشدة ولاء الأسرة. عندما تحدثت عن هذا مع "جميلة"، وهي امرأة تعيش مع بناتها في مخيم الأنبار، بانتظار العودة إلى الديار، وكانت قد أتمت التبرية، قالت لي: "ما الخيارات التي أمامنا؟ لا يمكننا البقاء هكذا إلى الأبد، نحتاج إلى العودة إلى ديارنا". مع من الواضح أن هذه الممارسة غير ملائمة– إذ لا ينبغي لامرأة أن تقدم شكوى جنائية ضد زوجها لتأمين الحقوق الأساسية – إلا أن العديد من العائلات لا ترى أي وسيلة أخرى للعودة إلى الديار.

حتى عندما تحصل العائلات على تصاريح أمنية، فليس هناك ما يضمن أنها تستطيع العودة إلى ديارها أو البقاء فيها.

في ديسمبر/كانون الأول 2018، كنت أسير عبر سوق مهجور بالكامل تقريبا في بلدة القائم، على طول الحدود السورية، والتي استعيدت من داعش في أواخر 2017. صادفت "هند"، التي كانت مترددة في الحديث حتى تمكنا من إيجاد مكان خاص نسبيا للحديث. قالت بهدوء: "تمكنت من الحصول على تصريح أمني وعدت إلى المنزل قبل 20 يوما، لكن في منتصف الليل قبل 10 أيام، ظهرت مخابرات قوات الحشد الشعبي في منزلي وصادرته. قالوا إن عليّ الذهاب والقيام بـ  التبرية إذا كنت أرغب في استعادة التصريح". كانت هند واحدة من 4 نساء التقيت بهن في ذلك اليوم اقوات الحشد الشعبي تصاريحهن الأمنية. كنّ جميعا يعشن في خوف من إلقاء القبض عليهن في المرة القادمة التي تأتي فيها قوات الحشد الشعبي إلى منازلهن، وربما حتى اغتصابهن.

بعض المجتمعات والجماعات المسلحة المحلية ترفض التبرية وتفرض حظرا شاملا على عودة أي عائلة لها صلات بداعش.

هناك مناطق أخرى تتبع أساليب أخرى لمراقبة أسر داعش. في أواخر يناير/كانون الثاني 2019، أصدرت السلطات في بلدة الكرمة، شمال شرق الفلوجة في محافظة الأنبار، بطاقات هوية زهرية اللون خاصة لـ200 أسرة على الأقل من أقارب المشتبه بانتمائهم لداعش، كما أخبرني محام محلي وعامل في المجال الإنساني. قالا إنه سُمح للعائلات بالعودة إلى ديارها ويمكنها استخدام الوثائق للسفر عبر نقاط التفتيش، ولكن سيتم تمييزها بشكل دائم بالبطاقات الزهرية.

في منطقة سنسل في محافظة ديالى، أخبرت مجموعات قوات الحشد الشعبي المسيطرة العائلات المحلية التي تتوق إلى العودة في منتصف 2018، إن على الرجل الأكثر قدرة في أسرته الانضمام إلى وحدة مسلحة محلية، بشكل عام بدون أجر، للقيام بدوريات في الحي والحراسة الليلية. أخبرتني "سهى" أن زوجها كان معلما، لكن خلال الأشهر العشرة الأولى بعد عودتهم، أُجبر على القيام بدوريات طوال الليل، مما منعه عن العمل. نظرا لأن بعض العائلات لا يوجد بها ذكر بالغ على قيد الحياة، قال "محمد" (23 عاما)، العضو في مجموعة "حراسة الحي" المحلية إن المجموعة تضم ما لا يقل عن 10 أفراد دون سن 18، أصغرهم سنا عمره 16.

اعتاد العراق أن يكون لديه عدد كبير من الجنود الأطفال ولكنه اتخذ خطوات فعلية على مدى العقد الماضي لتقليص عددهم. إلا أن التجنيد القسري من قبل الجماعات المسلحة المحلية يهدد هذا التقدم.

إعادة التأهيل

في حين أن الأسر التي لها انتماء متصور لداعش تواجه جميع أنواع سوء المعاملة، قد يصبح وضعها أسوأ بكثير في السنوات المقبلة. أخبرتني السلطات في بغداد في أوائل 2019 أنها تفكر في اقتراح لإنشاء مواقع احتجاز شبه دائمة واسعة النطاق يسمونها "مجمعات سكنية". قالوا إنهم سيبنون هذه المجمعات، أو "مدن في الصحراء" لإيوائها الأسر المتشبه بصلتها بداعش، لاستهدافها من خلال برامج إزالة التطرف. قالوا إن هذه "المجمعات" ستقدم خدمات كاملة، وأنه مع استثناءات محدودة، لن يُسمح "للمقيمين" في الداخل بالمغادرة أثناء إقامتهم هناك، دون تحديد المدة التي ستقضيها العائلات هناك. قال أحد المسؤولين إن المنظمات الإنسانية يجب ألا تكون موجودة في المواقع، حيث قال إن الحكومة ليست مهتمة بانتقاداتها.

هذه الخطة التي تقشعر لها الأبدان ليست جديدة.

كان ذلك في صيف 2016، وكان زعيم محلي في الأنبار يتحدث في غرفة إلى مجموعة من مسؤولي الأمم المتحدة حول المخاطر التي تشكلها ما يسمى بعائلات داعش.

قال: "قد يحملون أيديولوجيات خطيرة، ونحن بحاجة إلى تطهير عقولهم. نحتاج إلى إعادة تأهيلهم". قال إن استكمال الأسر لبرنامج إعادة التأهيل سيظهر للمجتمعات المحلية أن عليها أن تدع هذه الأسر تعود إلى ديارها.

حاولت الحكومة إنشاء مخيم لإعادة التأهيل في 2017، لكنها تخلت عن هذا الجهد. يشكل احتجاز الأسر ضد إرادتها وإجبارها على الخضوع لأي نوع من البرامج احتجازا تعسفيا. هذه الفكرة ليست جديدة – أقامت السعودية ونيجيريا والصومال دورات لإعادة التأهيل الإيديولوجي لأتباع "تنظيم القاعدة" و"بوكو حرام" و"الشباب". لكن هذه البرامج كانت مخصصة للمقاتلين في هذه المجموعات – وليس لأسرهم – وحتى في تلك البلدان قد ترقى هذه البرامج إلى الاحتجاز التعسفي. حتى إذا كان هناك شخص قريب لعضو في داعش، فلا ينبغي استخدام هذه العلاقة كذريعة لمعاقبته ظلما.

العزل والخوف في سنجار

في أواخر 2018، زرت 4 قرى عربية في سنجار حيث عادت العائلات طوعيا في يونيو/حزيران 2018. من 2014 إلى 2017، بقيت هذه العائلات تعيش تحت حكم داعش. في الوقت نفسه، عانى جيرانهم الإيزيديين من العبودية الجنسية والقتل على أيدي داعش. بعد استعادة المنطقة من داعش، هرب العرب وبدأ الإيزيديون بالعودة. شكّل بعض الإيزيديين جماعات مسلحة تحت رعاية قوات الحشد الشعبي المحلية، التي تورطت في قتل العرب السنة. منذ مطلع 2019، عاد حوالي 80 ألف إيزيدي إلى موطنهم الأصلي في سنجار، بينما كان هناك نحو 300 ألف شخص لا يزالون يعيشون في مخيمات في شمال العراق، بانتظار العودة إلى ديارهم.

في منتصف 2018، قالت الحكومة إنه يمكن لبعض العرب العودة إلى ديارهم. عادت حوالي 550 أسرة إلى القرى الأربعة عندما زرتها في نوفمبر/تشرين الثاني. بعد قضاء بعض الوقت في هذه المجتمعات، اتضح لي أمر واحد: دون مساءلة حقيقية عن الجرائم المرتكبة أثناء النزاع، سيتولى بعض السكان ذلك على طريقتهم.

"الياس"، رجل إيزيدي أعاد بناء منزله في أواخر 2018، دعا هذه العائلات العائدة إلى تحديد الأشخاص المسؤولين عن أخطر جرائم داعش لتخفيف التوترات حول عودتهم. كان قلقا من أنه إذا لم يحدث هذا، فقد يتعرض العائدون العرب لخطر الهجمات الانتقامية. في الوقت نفسه، أثارت مجتمعات العرب المحلية مزاعم بأن القوات المسلحة قامت بعد فرارهم من المنطقة بتدمير واسع النطاق لمنازلهم بعد نهب ممتلكاتهم وسرقة معداتهم الزراعية وحصادهم. أخبرني أحد القادة المحليين أنه بدون تعويض عن هذه الخسائر، فإن شكاوى مجتمعه سوف تتفاقم أيضا.

قالت معظم العائلات التي تحدثنا إليها إن التوترات بين العرب والإيزيديين لا تزال مرتفعة وأن الحماية الوحيدة التي لديها هي مجموعة صغيرة من جنود الجيش العراقي المنتشرين لحماية القرويين من أي هجمات. أخبرني "عمار"، من إحدى القرى التي كان ربع سكانها فقط على استعداد للمخاطرة بالعودة، أنه في أكتوبر/تشرين الأول 2018، ظهرت مجموعة كبيرة من أعضاء قوات الحشد الشعبي الإيزيدىين وسرقوا قطيع الخراف بالقرية بأكمله تحت تهديد السلاح. اضطر الجيش إلى التدخل وإعادة الخراف. أخبرتني عائلات في القرية المجاورة أنه قبل 3 أيام من زيارتي، عادت قوات الحشد الشعبي نفسها بالجرافات قائلة إنها ستقيم نقطة تفتيش لمراقبة العائلات. كاد الجيش أن يشتبك معهم قبل أن يتراجعوا.

أخبر الجيش عمار أنه إذا ما تجرأ أي من القرويين على دخول أي من البلدات في سنجار – البلدات التي اعتاد العرب على شغل وظائف فيها في الحكومة المحلية، سيُقتلون. يُجبَر عمار وبقية المجتمع على القيادة لمسافة 40 كيلومترا إلى أقرب بلدة يسيطر عليها السكان العرب للحصول على كل شيء بدءا من التسوق الأساسي وحتى الرعاية الطبية الطارئة.

أين هي الحكومة العراقية؟ أراد علي والياس أن يعرفا. دون بذل جهد متضافر لتوفير المساءلة عن جرائم داعش، بما في ذلك الجرائم المرتكبة ضد الإيزيديين، لمعالجة المظالم وبناء الثقة، فإن هذا الركن الصغير من العراق قد يكون مصيره دوامة لا متناهية من العنف.

متروكون في البرد

في يوم بارد وماطر في أوائل ديسمبر/كانون الأول 2018، زرت مجموعة من الخيَم التي لم تُزوَد بأي خدمات حكومية أو غير حكومية بجوار محطة قطارات مهجورة في صلاح الدين، على بعد 70 كيلومترا شمال بغداد. قال "إبراهيم"، الذي بدى كمتحدث باسم المجموعة التي تعيش هناك، إنه قبل القدوم إلى الموقع، كانت 74 عائلة من نفس القرية على بعد 3 كيلومترات فقط، تعيش في مخيم في بغداد منذ فرارها من منازلها في 2014. في بغداد كان لكل أسرة منزل يشبه الحاوية، طعام، رعاية صحية، ومدرسة قريبة. في فبراير/شباط 2018، طردتهم القوات العراقية بالقوة من هذا المخيم، قائلة إن عليهم العودة إلى ديارهم. حصل جميعهم على تصاريح أمنية. لكن بدلا من السماح لهم بالعودة إلى قريتهم، منعهم جنود الجيش العراقي لأن قوات الحشد الشعبي التي تسيطر على منطقتهم، قررت عدم السماح لأي شخص بالعودة، قائلة إن السكان المحليين كانوا متعاطفين مع داعش. هذه هي الطريقة التي انتهى بها المطاف بهذه العائلات مقطَعا بهم السبل في مخيم مؤقت في محطة القطار.

ترعى "ريم" طفليها بمفردها في المحطة المهجورة. لدى كلا الطفلين إعاقة، ويحتاج طفلها الأصغر (4 أعوام) إلى جراحة. أخبرتني أنه في بغداد على الأقل، عُرض الطفل على اختصاصي في مستشفى الأطفال. بكت بهدوء عندما أخبرتني أنها ليست لديها فكرة عما ستفعله، فهي لا تستطيع أن تترك طفلها الأكبر (9 أعوام) بمفرده لتأخذ الأصغر إلى بغداد لإجراء العملية الجراحية. "لماذا أجبرونا على المجيء إلى هنا رغما عن إرادتنا؟".

وماذا الآن؟

لماذا تشغلني محنة هذه العائلات؟ الأمر يضايقني على المستوى الأخلاقي، لكن لديّ أيضا خوف أعمق: عبر تهميش هذه الأسر، ومعاقبتها على الأفعال الحقيقية أو المتصورة لأفراد أسرها، وحرمانها من فرصة إعادة الاندماج في مجتمعاتها، تدفعها الدولة مرة أخرى إلى أحضان المجنؚدين مثل أولئك الذين استغلوا الشباب والفتيان من العرب السنة للانضمام إلى صفوف داعش.

يمكن لروان، التي احتُجز ابنها لأن زوجها قاتل مع داعش، أن ترى ذلك في أطفالها، الذين نُبذوا ومنعوا حتى من الذهاب إلى المدرسة. "سيكبر هذا الجيل ليصبح همجيا ... على الحكومة إعادتهم إلى المدارس وإصدار أوراق الهوية الخاصة بهم حتى يتمكن هذا الجيل من نسيان داعش".

لا أحد يعتقد أن التئام الجراح الكثيرة في هذا البلد المجروح سيكون سهلا. لكن مهمة الحكومة – بدعم من المجتمع الدولي – واضحة. يحتاج الأشخاص مثل روان إلى استعادة وثائقهم وحقوقهم المدنية. ينبغي السماح للأطفال بالعودة إلى المدارس. يتعيّن إنشاء أنظمة لإعطاء ضحايا أكثر الجرائم فظاعة إحساسا بالعدالة، والسماح للمجتمع العراقي بأكمله ببناء ما يكفي من الثقة للعيش بسلام جنبا إلى جنب، مرة أخرى.

 إذا كانت العودة إلى الديار مستحيلة، كما قد يكون الأمر بالنسبة للبعض، فإن الحكم على العائلات أن تعيش بالضياع في مخيم مؤقت، أو ترتيب سكني خاص أو غير رسمي ليس حلا. يستحق الجميع منزلا – إذا لم يتمكنوا من العودة إلى ديارهم، فإن على الحكومة منحهم بداية في أي مكان آخر بالعراق، وليس في مكان لا يمكن العيش فيه وبمعزل عن بقية المجتمع. بهذه الطريقة يمكن أن يبدأ التئام الجراح.

أطفال من عائلات تعيش في خيمة في مخيم إلى الجنوب من الموصل يأوي عائلات نازحة بسبب القتال بين داعش والقوات العراقية، مارس/آذار 2017. © 2017 بران سيموندسون لـ هيومن رايتس ووتش

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.