Skip to main content

مشروع قانون المصالحة الاقتصادية: العدالة الانتقالية في مرمى النار

نُشر في: المغرب

مع الأزمة الأمنية والاقتصادية التي تعيشها تونس، والتي تهدد بعرقلة التحول الديمقراطي، صارت البلاد تواجه تحديا جديدا يتمثل في مبادرة رئاسية تمنح عفوا لشخصيات من النظام السابق، وموظفين في الدولة

ورجال أعمال، وأعوان تنفيذ متهمين بالفساد وجرائم اقتصادية أخرى. وقد أدى مقترح القانون إلى نقاش حاد علي الساحة السياسية وجوبه بمعارضة كبيرة من العديد من الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني.

لقد برر الرئيس الباجي قائد السبسي هذه المبادرة، في اول اعلان رسمي عنها يوم عيد الاستقلال في 20 مارس بان القانون سوف «يوفر مناخا ملائما للاستثمار» وسيساعد على استعادة الأموال من رجال الأعمال الفاسدين لاستخدامها في مشاريع تنموية. ولكن مشروع القانون، في صيغته الحالية، سيمنح عفوا لموظفين عوميين ورجال أعمال مسؤولين عن فساد مالي، وسيقوّض مسار العدالة الانتقالية التي بدأت بشق الأنفس في 2013. هذا المسار، الذي يُعتبر أساسيا لمعالجة الجرائم والفساد تحت حكم الرئيس السابق بن علي،يرتكز على البحث عن الحقيقة والمحاسبة والتعويض.

بين النظر إلى المستقبل وطي صفحة الماضي
في 2013، تبنى المجلس الوطني التأسيسي قانونا يضع مقاربة شاملة لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي. نصّ على المحاسبة الجنائية بإنشاء محاكم متخصصة للنظر في القضايا المتعلقة بجرائم حقوق الإنسان الخطيرة، وأنشأ «هيئة الحقيقة والكرامة» المكلفة بكشف الحقيقة حول انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت بين يوليو 1955و2013. أنشأ القانون آليات لجبر

ضرر الضحايا، بمن فيهم الذين عانوا من انتهاكات مثل الإخلاء القسري ومصادرة الأراضي. كما نص على إصلاح المؤسسات والتدقيق في عمل موظفي الدولة. ويسند القانون للهيئة كذلك دورا هاما في الكشف عن الجرائم الاقتصادية والمالية بان احدث لجنة تحكيم في صلبها. ومنذ إنشائها، واجهت هيئة الحقيقة والكرامة انتقاداشديدا. البعض من هذه الانتقادات كان مستندا على اسس موضوعية وقانونية منها وجود اخلالات بالمعايير الدولية في القانون المنظم للهيئة وانتقاد طريقة تعيين اعضائها التي اعتبرها البعض نتيجة مقايضة سياسية. والبعض الاخر كان نابعا عن

توجه سياسي رافض للعدالة الانتقالية برمتها باعتبارها وسيلة، حسب هذا التيار، لتصفية الحسابات السياسية. وقد كان رئيس الجمهورية قد عبر عن هذا الموقف اثناء الحملة الانتخابية في اكتوبر 2014 بان دعا التونسيين إلى «النظر إلى المستقبل وطيّ صفحة الماضي». من الواضح أن اقتراح القانون الجديد يندرج ضمن هذه الرؤية.

ويهدف القانون الي انهاء جميع الملاحقات والمحاكمات والعقوبات الصادرة ضدّ فئتين من الاشخاص: الفئة الاولي تتكون من موظفي الدولة وغيرهم من الأعوان المرتبطين بالفساد المالي وبالاعتداء على المال العام، ويستثني القانون منهم اولئك المتهمين بالرشوة وبالاستيلاء على الأموال العمومية. ولكنه لا يحدد طريقة التمييز بين هذا وذاك، ولا المعايير التي ستعتمد للتثبت من ادلة عدم الاثراء عن طريق الفساد. اما الفئة الثانية فتتكون من رجال الأعمال وأي شخص اخر حصلت له منفعة من أفعال تتعلق بالفساد المالي أو بالاعتداء على المال العام الذي بإمكانه أن يتقدم بمطلب صلح لدي لجنة ذات طبيعة حكومية وأغلب أفرادها ممثلون عن الوزارات المعنية. ويؤدي هذا المطلب، إذا ما قبل من اللجنة واذا تعهد الشخص المعني بإرجاع الأموال المنهوبة وايداعها في حساب خاص، إلى وقف كل التتبعات والقضايا ضده.

ان المتامل في هذا القانون لا يسعه الا ان يلاحظ تعارضه الواضح مع مبادئ العدالة الانتقالية، ومنها الكشف عن الحقيقة حول اليات الاستبداد، والمحاسبة والقطع مع الماضي.
الاعتراض الاول حول هذا القانون يكمن اذا في انه لن يمكن من الكشف عن حقيقة الالة القمعية وعن حجم الفساد ونهب الاموال العمومية وحول توظيف دواليب الدولة من اجل اثراء فئة صغيرة من المقربين من النظام السابق. فواضح ان القانون المقترح سيحول دون إجراء مزيد من التحقيقات في جرائم فساد خطيرة أثناء حكم بن علي اذ انه لا فقط سينهي كل التتبعات ضدهم،

بل الاخطرانه سيمنع، كما جاء في المشروع، استخدام المعلومات التي يُحصل عليها في إطار هذا القانون لأي هدف آخر أو في أي مكان آخر. سيتسبب ذلك في تقويض مهمة هيئة الحقيقة والكرامة للوصول إلى حقيقة انتهاكات حقوق الإنسان تحت النظام السابق، والجهود الرامية إلى تقييم الجرائم الاقتصادية. وسيكون لهذا وقع هام علي مسار العدالة الانتقالية برمته، اذ ان تاريخ القمع في تونس كان مرتبطا ارتباطا وثيقا بالة نهب الدولة وبتحصين المقربين والعائلات النافذة من كل مساءلة.

في تونس، كما في أماكن أخرى، ثبت أن الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان تعزز بعضها البعض، وان هناك علاقة وطيدةبين نهب موارد الدولة وبين انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. فإبان حكم بن علي، كانت الموارد الاقتصادية والطبيعية تحول لصالح أقلية صغيرة من المقربين ورجال الأعمال الفاسدين، مما ألحق أضرارا بالحقوق الاجتماعية والاقتصاديةلمعظم التونسيين، وأضعف قدرة تونس على الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية والإسكان.

تسبب الفساد المستشري في عرقلة التطور الاقتصادي، وحال دون وجود منافسة عادلة وخلق فرص عمل، وغذى مناخ انتهاك الحقوق المدنية والسياسية. إبان حكم بن علي، كان المستفيدون من الفساد يسيطرون على مؤسسات الدولة، ويستخدمون المضايقة والتعذيب وغير ذلك من الانتهاكات لحماية مناصبهم.

رغم مرور 4 سنوات على إسقاط بن علي، لم يتم بعد الكشف عن أعمال الفساد والنهب بشكل كامل. بحسب دراسة للبنك الدولي في 2014، اختلس بن علي وأقاربه بين 1987 و2011 أصولا بقيمة 13 مليار دولار تقريبا، أي ما يعادل 25 % من الناتج الإجمالي المحلي لتونس في 2011. كما خلصت الدراسة نفسها إلى أن شركات عائلة بن علي الموسعة «استأثرت بـ 3.2 % من مجمل إنتـاج القطاع الخـاص، و21.3 % من أرباح القطاع الخاص الصافية في تونس». وأقرّت دراسة البنك الدولي باستمرار تفشي الفساد بعد رحيل بن علي، ولاحظت أن «معدل سرعة انتشار الفساد في تونس هو من أعلى المعدلات في العالم».

مؤسسات الدولة وممارسة الابتزاز في عهد بن علي
أنشأت السلطات التي وصلت إلى الحكم في 2011 لجنة للتحقيق في الفسادوالاختلاس، ونظرت هذه اللجنة في أكثر من 5 آلاف دعوى. في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، نشرت اللجنة تقريرها، وكشفت عن منظومة كبيرة للفساد كانت تستخدمها عائلة بن علي والمقربين منها لتحويل الأموال والأراضي لصالحها. وخلص التقرير إلى أن مؤسسات الدولة، مثل البنوك العمومية والقضاء والشرطة، تحوّلت جميعها إلى أدوات لممارسة الابتزاز، فواجه الذين رفضوا الخضوع لمطالب العائلة الرئاسية والمقربين منها الترهيب والمضايقات الجسدية والقضائية.

أرسلت اللجنة أدلة متعلقة بـ 400 قضية إلى المحاكم، ولكن معظم القضايا رُفضت لأسباب شكلية، أو صدرت فيها أحكام مخففة جدا، أو مازالت في طور المحاكمة، بحسب سمير العنابي، رئيس اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد.

كما قرّرت الحكومة الانتقالية مصادرة وتجميد أصول 144 فردا من عائلة بن علي الموسعة، و120 رجل أعمال كوّنوا ثروات ضخمة بفضل علاقاتهم بـ بن علي.
كل هذه الخطوات نحو تفكيك منظومة الفساد، رغم نقائصها، سيتم تجميدها بهذا القانون، بدون بديل مقنع وموضوعي.فعوض تعزيز هذه الخطوات، تتجه النية نحو القضاء علي كل هذا المسار رغم اهميته في تاريخ تونس.

والاعتراض الثاني يكمن في انعدام الشفافية التام في اليات المصالحة المقترحة. فقد قام القانون باسناد مهمة المصالحة للجنة غير مستلقة، وهي تحت السيطرة الكاملة للسلطة التنفيذية التي لا تتمتع بالحياد الكافي في هذا المجال بما انها هي نفسها الخصم والحكم. كما ان المقترح يجعل كل مسار المصالحة سري، سيتم بعيدا عن اعين المواطنين، بدون اي رقابة. فكل المعلومات التي سيتم جمعها ستبقى سرية، ولا يُمكن استخدامها في المستقبل لاستخلاص الدروس والعبر أو إصلاح المؤسسات اعتمادا على النتائج التي يتم التوصل إليها. فغياب الشفافية والعلنية في هذا المقترح واقصاء المواطنين من الحق في معرفة الحقيقة سينمي انعدام الثقة في الدولة وسيغذي الانطباع بان القانون هو افرازلصفقة مشبوهة بين اعضاء اقلية حاكمة تريد الابقاء على مزاياها القديمة وطي صفحة الماضي وكان ثورة لم تكن.

أما الاعتراض الثالث فيتمثل في ان القانون المقترح سيتسبب في منع التدقيق في عمل الإدارة العمومية وهو ما سيمكّن المسؤولين الحاليين والسابقين وكلّ من ساعدهم، أو ساعد منظومة الفساد، على الاستفادة من العفو العام دون الحاجة إلى قول الحقيقة أو الاعتذار أو المحاسبة علي افعالهم. قد يؤدي هذا العفو الشامل إلى ترسيخ السلوك التعسفي لدى موظفي الدولة.مثلما يتسبب الإفلات من العقاب على انتهاكات حقوق الإنسان في تغذية مزيد من الانتهاكات، عبر منح مرتكبي الجرائم إحساسا بأن أعمالهم مقبولة من قبل اعلى هرم في السلطة، قد يمنح غياب محاسبة الجرائم الاقتصادية موظفي الدولة أيضا احساسا بالحصانة للاستمرار في الفساد. لقد كانت منظومة الاستبداد والفساد مرتبطة ارتباطا وثيقا باستعمال اليات الدولة كالادارة العمومية والقضاء والامن من اجل احتكار السلطة والثروات، وهو ما يحتم التدقيق في دور هؤلاء الموظفين في تعزيز سيطرة رجال الاعمال الفاسدين المقربين من بن علي وعائلته علي مفاصل الدولة.

وهذا لا يعني ان كل الموظفين العموميين في فترة بن علي كانوا متواطئين مع النظام السابق. فمنهم من اكتفى بتنفيذ اوامر لم يكن بامكانه التملص منها، ومنهم من تصدى للعديد من الممارسات غير القانونية ودفع ثمن ذلك باهضا، ومنهم من تلقى الرشاوي وكان يغذي منظومة الفساد بكل حماسة. فلا يمكن اذا ان تتم التسوية بين كل هؤلاء ومعاملتهم بنفس الطريقة، بل يجب ايجاد اليات موضوعية وشفافة للتدقيق في المسؤولية الفردية للاشخاص كاساس للقطع مع منظومة الفساد.

ان مشروع القانون يرسل إشارة واضحة مفادها أنه سيتم التسامح مع الفساد، وان سرقة المال العام ونهب موارد الدولة هي فقط تفصيل صغير في تاريخ تونس وجب نسيانه في اقرب وقت ممكن. ليست هذه الرسالة التي كانت جوهر الثورة التونسية، التي اندلعت بحركة يائسة من رجل واجه ظلما اقتصاديا واجتماعيا، والتي لا يزال شعارها العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة.

 

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.

الأكثر مشاهدة