Skip to main content

لبنان: تقصير في التحقيق المحلّي في انفجار المرفأ

التحقيق الدولي ضروريّ من أجل الشفافية والمحاسبة

مخلفات انفجار مرفأ بيروت الذي دمر المدينة وقتل أكثر من 200 شخصا وجرح أكثر من 6 آلاف، وترك 300 ألف شخص بلا مأوى.  © 2020 مروان نعماني/أسوشيتد برس

(بيروت) - قالت "هيومن رايتس ووتش" اليوم إنّ تحقيقا محليا في الانفجار المدمّر الذي طال مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020 لم ينتج عنه أيّ نتائج موثوق بها، بعد أكثر من شهرين. التدخّلات السياسية المرفقة بالتقصير المتجذّر في النظام القضائي جعلت على ما يبدو من المستحيل إجراء تحقيق محليّ موثوق به ومحايد.

ينبغي أن تحضّ "مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان"، التي ستجتمع الأسبوع المقبل، السلطات اللبنانية على دعوة "الأمم المتحدة" إلى إجراء تحقيق مستقلّ لتحديد أسباب الانفجار والجهات المسؤولة عنه.

قالت آية مجذوب، باحثة لبنان في هيومن رايتس ووتش: " الجميع في بيروت انقلبت حياتهم رأسا على عقب بسبب الانفجار الكارثي الذي دمّر نصف المدينة، ويستحقّون العدالة للكارثة التي لحقت بهم. وحده تحقيق دولي ومستقلّ كفيل بكشف حقيقة الانفجار. ينبغي ألّا تجاري’مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان‘ تظاهر السلطات اللبنانية بقدرتها على إجراء تحقيق موثوق به".  

في 10 أغسطس/آب، أحالت الحكومة اللبنانية ملفّ انفجار بيروت إلى "المجلس العدلي"، وهو محكمة خاصّة لا تسمح بالاستئناف. عُيِّن القاضي الذي ترأس التحقيق في عملية مبهمة ومُحاطة بمزاعم التدخّل السياسي، ما أثار مخاوف جدية حول استقلالية العملية.

بينما شارك محقّقون أجانب، بينهم نحو 50 من الشرطة الجنائية والدرك الفرنسيَّين و"مكتب التحقيقات الفيدرالي" الأمريكي، في التحقيقات المحلية الجارية بدعوة من السلطات اللبنانية، لا تعالج مشاركتهم العيوب الجوهرية في المقاربة الراهنة. يبقى غير واضح دور هؤلاء الخبراء الأجانب وقدرتهم على التحدّث علنا عن النتائج التي توصّلوا إليها أو انتقاد محاولات تقويض عملهم. قالت هيومن رايتس ووتش إنّه ينبغي أن توضح فرنسا وأمريكا دورهما وتفويضهما، وأن تكشفا علنا أيّ محاولات لعرقلة العدالة.

حتى 13 أكتوبر/تشرين الأوّل، أفاد الإعلام المحلي بأنّ 25 شخصا اعتُقلوا بسبب ارتباطهم بالقضية، ووُجهّت تهم إلى 30 شخصا. لم تفصّل السلطات اللبنانية الأدلّة والتهم ضدّ هؤلاء الأفراد، ومن غير الواضح ما إذا مُنحوا الإجراءات القانونية الواجبة. لم يُوجَّه اتهام إلى أيّ وزير سابق أو حاليّ.

في أغسطس/آب، أعلن 30 خبيرا من الأمم المتحدة عن معايير للتحقيق الموثوق به، وأشاروا إلى ضرورة "حمايته من أي تأثير غير ضروري"، "وتضمينه المنظور الجنساني [الجندري]"، و"منح الضحايا وأقاربهم إمكانية الوصول الفعال إلى التحقيق"، و"منحه ولاية قويّة وواسعة النطاق للتحقيق بفعالية في أي إخفاقات منهجية ارتكبتها السلطات اللبنانية". لكن التحقيق المحلّي في انفجار بيروت لم يلبِّ المعايير الدولية للإجراءات القانونية الواجبة ولا المعايير التي حدّدها خبراء الأمم المتحدة. عوضا عن ذلك، ركّز التحقيق على المسؤولين الإداريين للمرفأ والجمارك، مثيرا مخاوف من إفلات مسؤولين سياسيين متورّطين  في الانفجار من المساءلة.

قالت مجذوب: "المسؤولية عن انفجار بيروت تتخطّى بأشواط المشرفين على المرفأ والجمارك. أيّ تحقيق يدّعي الحياد ينبغي أن ينظر في الفساد وسوء الإدارة المتغلغلَين في النظام السياسي بأكمله، اللذين خلقا الظروف المؤاتية للانفجار". 

بعد الانفجار، تقاذف المسؤولون اللوم. تشير سجلات المحكمة والمراسلات الرسمية المسرّبة إلى وسائل الإعلام إلى أن العديد من المسؤولين الكبار، بمَن فيهم الرئيس، ومسؤولون أمنيون، ومسؤولون قضائيون، كانوا على علم بمخزون نترات الأمونيوم الخطير في المرفأ، لكنهم لم يتحركوا. نقلت "رويترز" عن مصدر رسمي لم تسمّيه قوله إنّ التحقيقات الأولية تشير إلى "التراخي والإهمال" في تخزين نترات الأمونيوم شديدة الانفجار.

أدّى افتقاد التحقيقات المحلية إلى الاستقلالية والشفافية إلى فقدان واسع للثقة الشعبية في الإجراءات، ما دفع العديد من الضحايا وعائلاتهم إلى المطالبة بتحقيق دولي. قالت هيومن رايتس ووتش، وغيرها من المجموعات الحقوقية، منها "منظمة العفو الدولية"، إنه ينبغي إجراء تحقيق دولي. رفض المسؤولون اللبنانيون هذه الدعوات، ووصف الرئيس ميشال عون أي تحقيق من هذا القبيل بأن "الهدف منه تضييع الوقت".

اندلع حريقان في مرفأ بيروت منذ الانفجار، في 8 و10 سبتمبر/أيلول، ما أثار العديد من المزاعم عن التلاعب بمسرح الجريمة. قال نقيب المحامين في بيروت ملحم خلف لـ "وكالة فرانس برس" إنّ الحريقين "مؤشر مقلق"، واصفا ما جرى بأنه "غير مقبول وغير مطمئن". أضاف أنّ "الحفاظ على مسرح الجريمة (الانفجار) كان أوّل ما طلبناه" من التحقيق.

في 2018، أعربت "اللجنة المعنية بحقوق الإنسان" التابعة لـ الأمم المتحدة عن قلقها من "ممارسة ضغوط سياسية على السلطة القضائية كما يُشاع، لا سيما في تعيين المدعين العامين وقضاة التحقيق الرئيسيين، وإزاء الادعاءات بأن السياسيين يستخدمون نفوذهم لحماية مؤيديهم من الملاحقة القضائية". تستمرّ نقاط الضعف الهيكلية هذه في النظام اللبناني في إعاقة إحقاق العدالة في السياق الراهن.

قالت مجذوب: "أظهر تقصير السلطات اللبنانية في الشهرين الماضيَين أنّ التحقيق الدولي هو السبيل الوحيد ليحصل اللبنانيون على الأجوبة والعدالة التي يستحقّونها في انفجار بيروت. كما أظهرت أهمية وإلحاح معالجة نقاط الضعف الهيكلية التي تمنع القضاء اللبناني من تحقيق العدالة بشكل مستقلّ وحيادي".

مشاكل في التحقيق الحالي

في 4 أغسطس/آب، دمّر انفجار هائل في مرفأ بيروت المدينةَ، وقتل حوالي 200 شخص، وجرح أكثر من 6 آلاف، وشرّد 300 ألف آخرين. أثّر الانفجار على الإمدادات الغذائية في لبنان، إذ تستورد البلاد 85% من غذائها، وكان المرفأ يستقبل 70% من واردات البلاد. أثّر الانفجار أيضا على 163 مدرسة رسمية وخاصّة، وعطّل نصف المراكز الطبية في بيروت.

قال الرئيس عون ورئيس الوزراء حينها حسّان دياب إنّ سبب الانفجار هو 2,750 طنّ من نترات الأمونيوم المخزّنة في عنبر في مرفأ بيروت منذ أكثر من ستّة أعوام من دون احتياطات ملائمة للسلامة. ما تزال الظروف التي أدّت إلى انفجار هذه الموادّ غير واضحة.

وعد الرئيس عون بتحقيق شفّاف في أسباب الانفجار. لكنّ التحقيق الذي أجرته السلطات اللبنانية بعيد عن الشفافية والاستقلالية، ولا يراعي المعايير الدولية العادلة.

لجنة التحقيق الإدارية

في 5 أغسطس/آب، أنشأ مجلس الوزراء "لجنة تحقيق إدارية" برئاسة دياب تضمّ وزراء الدفاع، والعدل، والداخلية، إلى جانب قائد الجيش ومديري ثلاثة أجهزة أمنية، وكلّفها برفع نتائج التحقيق إلى مجلس الوزراء خلال خمسة أيّام. لم تُدلِ هذه اللجنة بأيّ تصريحات علنية، ويبدو أنّها توقّفت عن العمل بعد استقالة حكومة دياب في 11 أغسطس/آب.

قالت هيومن رايتس ووتش إنّ مجلس الوزراء انحرف بشكل مُستهجَن عن مبادئ الاستقلال والحياد عندما سلّم التحقيق للوزارات والمؤسسات نفسها التي يجب أن تكون قيد التحقيق. انتقد كلّ من "نادي قضاة لبنان" ونقيب المحامين في بيروت تشكيل اللجنة.

تحقيق النائب العام

في حدث منفصل، في 5 أغسطس/آب، طلب النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات تحقيقا من "قوى الأمن الداخلي" حول نترات الأمونيوم، وسألها أن تزوّده بأسماء المسؤولين المشرفين على تخزين المادة وأمنها. في 10 أغسطس/آب، أعلن عويدات أنّه، وبعد تحقيق تحت إشرافه هو ومفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة، القاضي فادي عقيقي، اعتُقل 19 مشتبها بهم. لم يفصِح عن أسمائهم أو التهم الموجّهة إليهم. لم يتّضح ما إذا تيسّرت لهم الإجراءات القانونية الواجبة.

المجلس والمحقِّق العدليّان

في 10 أغسطس/آب، أوصى عويدات مجلس الوزراء بإحالة القضية إلى المجلس العدلي، ونفّذ مجلس الوزراء ذلك في اليوم نفسه. بدورها، عيّنت وزيرة العدل ماري كلود نجم القاضي فادي صوّان كمحقّق عدلي.

أحاط الغموض بتعيين المحقّق العدلي، وسط مزاعم بالتدخّل السياسي. رفض مجلس القضاء الأعلى قاضيَين كانت وزيرة العدل قد اقترحتهما في البداية، من دون شرح القرار، مكتفيا بالقول إنّ مداولات المجلس سرية.

بالكاد أعطى القضاء معلومات للناس عن تحقيق القاضي صوّان، وكلّ المعلومات تقريبا عن وضع القضية جاءت من تسريبات إعلامية كان بعضها غير دقيق.

حتى 13 أكتوبر/تشرين الأوّل، أفادت وسائل إعلام محلية أنه اعتُقل 25 شخصا على صلة بالقضية، ووُجّهت التهم إلى 30 شخصا، واستمع القاضي صوّان إلى 47 شاهدا. لم يُعلن عن الأدلة والتهم الموجهة إلى المعتقلين. إلا أنه، وبعد أكثر من شهرين من التحقيق، لم يُستجوب أي وزير، سابق أو حاليّ، كمشتبه به. استمع المحقق العدلي إلى إفادات وزراء حاليين وسابقين بصفتهم "شهود" في قضايا ضدّ موظفي المرفأ وغيرهم من الموظفين الإداريين.

يعمل مجلس القضاء وفق افتراض أنّه غير مختصّ في محاكمة الرؤساء والوزراء الحاليين أو السابقين. يحاجج بأنّه، وبسبب الحصانة القانونية للموظفين الرسميين، لا يحق بذلك إلا لـ "المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء"، وهو هيئة من سبعة نوّاب ينتخبهم البرلمان وثمانية قضاة يعيّنهم القضاء. لكن، لم ينشأ هذا المجلس بعد.

عارض نادي قضاة لبنان هذا الاجتهاد القانوني، معتبرا أن جريمة قتل المواطنين أو التسبب في وفاتهم لا تخضع للحصانة، لأنها لا تتعلق مباشرة بممارسة الواجبات في الوظيفة. أوضح النادي أن الملاحقة القضائية من قبل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء شبه مستحيلة "في ضوء الفساد السياسي والاقتسام الطائفي القائمين في البلد وخلو أرشيف مجلس النواب من أية ملاحق".

المجلس العدلي هو محكمة خاصة ذات قرارات غير قابلة للاستئناف، وينتهك بذلك الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة. تتم الإحالات إلى المجلس العدلي على أساس تقديري بموجب مرسوم وزاري، بناءً على توصية وزير العدل، في القضايا التي تُعتبر عالية الخطورة. يعيّن وزير العدل رئيس المجلس العدلي والمحقق العدلي بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى.

يفتقد مجلس القضاء الأعلى، الهيئة المسؤولة عن التوصية بتعيين قضاة في محاكم معينة، إلى الاستقلالية، ولطالما كان وسيلة للتدخل السياسي في القضاء. تعيّن السلطة التنفيذية ثمانية من أعضائه العشرة، ويفتقر المجلس إلى الاستقلال المالي، حيث يتم تخصيص الأموال له سنويا من ميزانية وزارة العدل. لطالما انتقد نادي قضاة لبنان علنا عدم استقلالية القضاء وقاد جهودا إصلاحية.

قالت هيومن رايتس ووتش إنّه ينبغي للبنان تعديل "قانون أصول المحاكمات الجزائية" بحيث تتماشى أحكامه مع مبادئ المحاكمة العادلة، وسن قانون ينصّ على استقلالية القضاء، وهو يقبع في أدراج مجلس النواب منذ سنوات.

لم يتخذ المجلس العدلي إجراءات ضدّ التلاعب المزعوم بالأدلة، ما أضعف الثقة في مصداقية التحقيق. قدمّ صحفيون من قناة "الجديد" المحلية أدلّة على أن مسؤولين أزالوا وثائق من وزارة الأشغال العامة، التي تشرف على المرفأ، في 9 أغسطس/آب.

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.

الأكثر مشاهدة