Skip to main content

شاهد عيان: كيف تُلجَم المعارضة في جنوب السودان

دعوة إلى تناول الشاي أفضت إلى شهور من التعذيب

 

كان أديانغ ماليش (اسم مستعار)، معتادا عى تلقي مكالمات هاتفية على مدار الساعة . بحكم عمله كصحفي في جوبا بجنوب السودان، كان أديانغ (37 عاما) يتلقى بانتظام اتصالات من أصحاب المقالب كما ومن مصادر جادة. لم يكن يكثرت لمكالمات التهديد التي تسأله عن السبب الذي دفعه إلى كتابة مقالات عن حزب معارض، كان يكتفي بتجاهلهم ويعتبرها سخافات من قراء غاضبين. لم يتوقع أبدا أنه في يوم ما سيتعرض للاعتقال والتعذيب بسبب عمله.

في أمسية حارة في مايو/أيار 2017، تلقى أديانغ مكالمة هاتفية من أحد معارفه الذي أخبره أن قوات الأمن كانت تخطط لاعتقاله. طلب المتصل، وهو ليس مصدرا معتادا أو صديقا، تناول كوب شاي والتحدث معه بهذا الشأن في مقهى في مدينة جوبا. أثارت المكالمة قلق أديانغ، وتردد للحظة وهو يفكر في مكالمات التهديد التي يتلقاها. مع ذلك، قرر الذهاب إلى الموعد.

قال لـ"هيومن رايتس ووتش: "لم أبلِغ عن التهديدات لأنني أشك أن الشرطة كانت ستحقق فيها، كما أنني لم أر صلة بين التهديدات السابقة وهذه الدعوة لتناول الشاي".

بعد وصوله إلى المقهى بدقائق فقط توقفت سيارتان أمامه واقتحم المكان رجال من "جهاز الأمن الوطني" (الجهاز) يرتدون الزي العسكري ويحملون بنادق "كلاشنكوف" وطلبوا منه تأكيد هويته. عندما فعل، ألقوه أرضا وركلوه وضربوه بأعقاب البنادق. وضعوا غطاء على رأسه وحملوه إلى سيارة في رحلة سريعة وطويلة. كان أديانغ ملقى على بطنه في السيارة والأفكار تسرع في ذهنه.

أعقبت دعوةَ الشاي هذه محنةٌ في الاحتجاز دامت تسعة أشهر.

خلص تقرير جديد لهيومن رايتس ووتش بعنوان "ما الجريمة التي دفعتُ ثمنها؟ انتهاكات جهاز الأمن الوطني في جنوب السودان"، إلى أن احتجاز أديانغ وتعذيبه كان ضمن نمط انتهاكات اعتاد عليه الجهاز.

تأسس جهاز الأمن الوطني عام 2011 كوكالة استخباراتية لجمع المعلومات وتقديم الاستشارات للسلطات المعنية. لكن قانون جهاز الأمن الوطني لعام 2014 منح الجهاز سلطات واسعة للاعتقال، والاحتجاز، والتفتيش، والمصادرة دون إشراف مدني أو قضائي فعال. وجدت هيومن رايتس ووتش أن الجهاز استخدم هذه الصلاحيات لاعتقال الأشخاص تعسفا، بمن فيهم منتقدون سياسيون، وصحفيون، وحقوقيون، وعاملي إغاثة وغيرهم، ومن ثم احتجازهم في ظروف مروعة وإساءة معاملتهم من دون رعاية طبية أو طعام كافٍ. أُفرِج عن معظمهم لاحقا دون تحقيق أو تهم رسمية أو محاكمة، ولم يقابلوا محاميا ولا قاضيا. يتنصت الجهاز أيضا إلى المكالمات الخاصة دون أي إشراف قضائي، ويُجبر شركات الاتصالات على تسليمه بيانات المستخدمين. وهكذا، أصبح جهاز الأمن الوطني أكبر أداة قمعية لدى السلطات.

تنتاب أديانغ غصة عندما يتذكر أحداث تلك الليلة: "ظننت أنني سأموت. لم يكن أطفالي ليعرفوا مصيري".

قال أديانغ، وهو أب لأربعة أطفال وصحفي شغوف بعمله، لـ هيومن رايتس ووتش إنه يريد أن يؤدي واجبه لتكون جنوب السودان ديمقراطية أقوى للأجيال القادمة. يؤمن أن بإمكان الصحافة أن تقود التغيير، وأن بإمكان المجتمع أن ينمو ويتعزز إذا سُمِح للمواطنين بمساءلة قادتهم بحرية، ويرى أن قادة جنوب السودان يقدّرون حرية الصحافة.

في ليلة اعتقال أديانغ، توقفت السيارة التي كانت تقله أخيرا خارج أحد المباني بعد حلول الظلام. اقتاده خاطفوه إلى الداخل. لم يعرف المكان. سمع رجلا يتحدث عبر الهاتف يؤكد أن أديانغ بحوزتهم ويطلب المزيد من التوجيه. اقتيد أديانغ إلى داخل المبنى، وفُتحت ثلاثة أبواب ثم أغلِقت. بدا وكأنه في سجن. علِم فيما بعد أنه كان في معتقل جهاز الأمن الوطني المعروف باسم "ريفر سايد"، بسبب قربه من نهر النيل.

أُلقي في زنزانة صغيرة قضى فيها الأيام الثلاثة التالية. أُزيل الغطاء عن رأسه، لكان الظلام كان حالكا ولم يستطع رؤية شيء. جلس لكن الزنزانة كانت أصغر من أن يمد ساقيه. كان عسكري يقرع الباب بين الفينة والأخرى للتحقق من أنه ما زال على قيد الحياة. في اليوم الرابع، فُتح الباب واقتيد إلى غرفة أخرى للاستجواب. سأله شرطي عن هويته وعن الجريمة التي ارتكبها. بدلا من الإجابة عن السؤال، سأل أديانغ عن سبب اعتقاله. توقف الاستجواب.

سأله ضابط آخر بدا ودودا إن كان يريد كوبا من الشاي. اطمأن أديانغ قليلا وقبِل الدعوة. كان يجهل أن "الشاي" له معنى مختلف تماما في مبنى جهاز الأمن الوطني. خُلع قميصه وأمسك جنديان يديه ليبدأ ثالث بضربه. أخبروه أنه سيتناول كوب الشاي بكل تأكيد، وهو 300 جلدة مزقت جلده وأصابت عموده الفقري. تدفق الدم بغزارة من ظهره. استُدعي محتجزان آخران لتنظيف المكان من الدم وتم جره إلى زنزانته من جديد.

كانوا يطعمونه مرة في اليوم، فاصوليا في الغالب. افتقد أديانغ أطفالَه وتساءل إن كان سيراهم من جديد. كان عليه الاستعداد لهذا المستقبل المظلم في الاحتجاز إلى أجل غير مسمى. ضربه رجال الشرطة مرارا وتكرارا. أحيانا كانوا يثبتون قطعة قماش على وجهه ويسكبون عليه الماء لخنقه. كان الحراس يمنعون التواصل بين المحتجزين، لكن ذات يوم، تعرّف أديانغ على محتجز جديد. اندهشا لرؤية بعضهما. أخبر الرجل أديانغ أن الجميع قلقون عليه، وأنهم يبحثون عنه. أعطى هذا الخبر أديانغ بارقة أمل، فهناك من يفكر فيه.

بعد أربعة أشهر، نُقل أديانغ إلى معتقل "البيت الأزرق" السيئ الصيت التابع لجهاز الأمن الوطني في جوبا والمميز بنوافذه الزرقاء المظللة. يُحتجز المعارضون السياسيون إلى أجل غير مسمى هناك أيضا، ويتعرّضون للتعذيب، بل ويُخفَون قسرا.

استُجوب أديانغ مطوّلا، وسُئل عن عمله: "سألوني لماذا أعمل صحفيا، ولِم تحدثت مع سياسيين معارضين، ولم كتبت هذا المقال أو ذاك".

اتُّهم بالوقوف في صف المعارضة وتقديم أخبار لوكالات تعمل ضد مصلحة جنوب السودان. لم يقبل الاتهامات ولم يفهمها أصلا. دافع أديانغ عن عمله. بالنسبة له، الصحافة تعمل من أجل الديمقراطية، لا ضدها.

في يناير/كانون الثاني 2018، أُفرِج عن أديانغ دون توجيه تهم إليه أو المثول أمام قاض، ولا حتى جلسة استماع في المحكمة. حذّروه بأنه سيكون تحت المراقبة وبأن عليه وضع حد لعمله الصحفي. كان جسمه مثخنا بالندوب. كان يمشي بالكاد ويعاني من آلام موهنة في ظهره. توالت عليه نوبات من الغضب والحزن والأرق من شدة الصدمة.

ساءت حالته في المنزل، فقرر أصدقاء له في المجتمع المدني مساعدته على عبور الحدود لتلقي الرعاية الطبية في بلد مجاور. صار بعيدا عن أطفاله من جديد.

كان علاج أديانغ الطبي مطوّلا ويتطلب رعاية متخصصة، واضطر للانتقال إلى بلد آخر لإجراء عملية جراحية على عموده الفقري. يواصل أديانغ الكتابة عن تجربته في الاحتجاز بينما يستعيد عافيته.  ويشاهد أطفالَه يكبرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويكلمهم هاتفيا متى استطاع.

خلص تحقيق هيومن رايتس ووتش إلى أن العديد من منتقدي الحكومة والنشطاء في جنوب السودان يعيشون في رعب من جهاز الأمن الوطني الذي يعمل بلا حسيب ولا رقيب. على حكومة جنوب السودان إلغاء سلطات جهاز الأمن الوطني الواسعة وضمان العدالة للضحايا. ينبغي أن يكون في مستقبل جنوب السودان مكان للأصوات المتنوعة والمعارضة مثل أديانغ، لا أن يعيش المواطنون في خوف من جهاز أمن سادي وخارج عن القانون.

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.

المنطقة/البلد